Powered By Blogger

الجمعة، 24 أبريل 2015

القراءة الفعالـة





القِرَاءَة الفعَالَة

عبد العلي الوزاني

هناك قراءة سلبية، وهي التي يقف صاحبها من مسائل الأدب والعلم والثقافة موقف المتفرج، الذي لا يشعر إلا بما يشعر به المتفرجون من فراغ في العقل والقلب، فلا يهمه إلا أن يمضي فترة من فترات الفراغ، عابثا بهذه الصفحات المرصعة بالجمل والكلمات دون أن يفكر في الدفاع عن حق أهين، أو يهتز لحق انبلج كما ينبلج الصبح. وهناك قراءة إيجابية، وهي التي يكون صاحبها ممتلئا بما يقرأ، فتراه يشترك مع الكاتب في التفكير والإحساس يصعد معه إلى الجبل وينخفض إلى السهل، يخوض معه المعارك ويشترك في المواسم، وهذا النوع هو الذي نطلق عليه "القراءة الفعالة" ومعني ذلك أنها القراءة الهادفة، التي تهتز معها أعصاب التفكير وأسلاك الشعور، بحيث تكون منشأ صراع نفسي بين المستهلك والمنتج، قد ينتهي بإحلال فكرة محل فكرة، ولربما انتهى بإحلال عقلية محل عقلية. فقد تتصل بذلك الكاتب الذي يقلب فينا مقاييس التفكير ويغير وضعية الأفكار التي تبنيناها مدة طويلة. وقد نتصل بذلك الشاعر الذي يحدث فينا تغييرا سيكولوجيا، حيث يستطيع بإيحائه القوي، أن يوجه غرائزنا العليا توجيها أدبيا، ويخلق لنا مثلا عليا في الحياة الإنسانية والحياة العاطفية.

وكل قراءة فعالة يقوم بها مثقف، تعتبر مشاركة في تصحيح أخطاء الفكر البشري وتطهيره مما علق به من خرافات وأكاذيب، فهو يناقش الأفكار ويمخص النظريات وينفذ إلى صميم الاتجاهات العاطفية في الفن الأدبي، فيقف على الطبيعي منها والزائف بالقياس إلى الشعور الإنساني والشعور الفردي، وبذلك يكون مصدرا تاريخيا من مصادر الكتاب الذي قرأه هذه القراءة، وكل كتاب علمي أو أدبي نقرأه ولا نكون أحد مصادره، يعتبر غير موجود بالقياس إلينا، ومعنى ذلك أن التأثرية القائمة بين القارئ والمقروء هي التي تشعر القارئ بقيمة ما يقرأ، فالكتاب الذي نقرأه فنمتلئ به، وقد يثير فينا آراء وخواطر خطيرة تدفعنا إلى تلمس أوجه الضعف فيه، يعد بحق شيئا موجودا بالنسبة إلينا. أما الكتاب الذي نقرأه فلا يوقظ فينا نائما ولا يحرك ساكنا، فهو بالنسبة إلينا على الأقل لا وجود له، كما أن هناك أشياء كثيرة في محيط حياتنا نراها ونحسها في أكثر الأحيان، ومع ذلك فوجودها عندنا وعدمه سواء هذا مع التسليم بأن هناك طوائف من الناس والأشياء والكتب لها قيمة كبرى في ذاتها، ولكنها تظهر لنا بسبب الضعف البشري فارغة من كل قيمة. ولذلك فكم نخطئ تقدير شخص من الأشخاص أو كتاب من الكتب معتقدين أنا على حق، ولكن بعد تغير الظروف والأحوال يتبين لنا هذا الخطأ ولا نعجز عن رده إلى الحكم المرتجل الذي لا يقوم على البحث والدرس، فنشعر حينئذ أن العيب عيبنا لا عيب الشخص  أو الكتاب. وقد يعترينا الغرور الأدبي في بعض الأحيان فننظر إلى كاتب من الكتاب كطفل يلهو، فلا نحس نحوه إلا بما يشبه العطف والإشفاق الممزوجين بالاستخفاف، فتحول هذه دون احتراما للفكر البشري، ومعرفة ما يلقيه علينا من تبعات حين يضل أو ينحرف، حيث كان علينا أن نقومه ونرده إلى شيء من الصواب. وهذا الغرور يظهر بصورة بارزة عند الطبقة العليا من المثقفين مع الأسف الشديد، فهم إذ يلتقون بكاتب صغير لازالت لم ترتفع عنده مقاييس التفكير، عوضا عن أن يعملوا على توجيه وتصحيح أخطائه في شيء من النزاهة وشرف المقصد، يذهبون كل مذهب في السخرية به والتهكم عليه، وقد يدفعهم الغرور إلى تجريده حتى من فهم معاني الألفاظ ولكن تاريخ الحركات العقلية في شتى الأوساط، يدلنا على الدور المهم الذي يقوم به صغار المثقفين في الحياة الأدبية، ومقدار تأثيرهم على المثقفين الكبار وعلى الأدب القومي بصفة عامة، بل إننا نرى المقارنين يلتمسون آثارهم في الآداب الأجنبية، إذ كان أغلبية الوسطاء في نقل بعضها إلى بعض منهم.

إن القراءة الفعالة هي التي يجب أن نعرف بها أي كتاب من الكتب مهما كانت قيمته، جازمين بأن الفكرة الخاطئة لا تقل في إفادتنا عن الفكرة الصائبة، إذ كانت هذه تنفي الباطل وتلك تؤيد الصحيح.

ويصحب القراءة الفعالة مع الكتابة الفعالة، نمو نفسي تتسع معه المواهب وتتطور الملكات، وقد نهتدي به إلى ملكات ومواهب أخرى كانت كامنة في أعماق النفس معطلة من العمل. وهذا ما لا مغالاة فيه، فنحن كلما تقدمنا في مضمار الفهم والتحصيل، اكتشفنا ناحية خبيئة من نواحي أنفسنا، وفككنا لغزا من ألغاز ضمائرنا. وقد نقضي سنوات عديدة ندرس ونبحث، ونحن لا نستغل إلا أبسط مواهبنا، ثم ندخل في طور زمني آخر يبدأ فيه إحساسنا بأنا نملك موهبة أخرى ممتازة لم يسبق لنا أن عرفناها. وهذا هو السبب الذي من أجله يأتي نبوغ أحد الأدباء متأخرا، إذ لم يكتشف أسمى مواهبه إلا بعد مضي مدة طويلة في البحث والدرس.  وهذا يحملنا على خشية أن نغفل القراءة الفعالة إزاء أحد الكتب، إذ ربما كان فيه مفتاح سر عظيم عن أسرارنا النفسية. وأسرار النفس عالم من العجائب، فقد نقرأ كتابا قيما في موضوعه وأسلوبه، فلا يثير فينا من المشاعر والأحاسيس، ما قد يثيره فينا كتاب بسيط في هيكله ومقاصده÷ كما أننا قد نقف أمام الطبيعة في أبهى مظاهرها فلا تبعث فينا من المشاعر ما قد تبعثه فينا زهرة ذابلة داستها الإقدام أو شجرة جرداء في خريف العمر.

ومن أهم مزايا القراءة الفعالة، كونها ذات تأثير على الحياة العملية، إذ لا يبقى الكثير من الأفكار والنظريات والمشاعر منحصرا في ذلك الواقع النفسي، ولكنه يبرز إلى الحياة بالأزياء التي تقتضيها أحوال الزمان والمكان فقواعد السلوك ومعالجة المشاكل المحلية، والقيام بالواجبات الاجتماعية والوطنية والإنسانية، كل أولئك تؤثر فيه القراءة الفعالة، ومؤدى هذا التأثير، أن يكون المثقف صاحب أثر في الحياة يميزه عن غيره من الأحياء العاديين وإذ كان مقياس قيمة المثقف، ماله من أثر في الحياة، فتأمل ماذا رفع من قيمة مثقف في وسط من الأوساط، تجد علة ذلك تأثيره على الحياة الاجتماعية والأدبية لبلاده. فالثقافة حين تخرج من حيز الفكر إلى ميدان العمل والتطبيق والاستيعاب، تصير حقيقة من حقائق الواقع الذي لا يملك أحد له دفعا، ومن هنا نجاحها وتأثيرها في العقول والقلوب، وتأثير المثقف في الحياة هو النتيجة الطبيعية للقراءة، لكونها تربي في المثقف من الأفكار والمشاعر والمبادئ، ما يستحيل أن يبقى سجن الفردية إذ ما نما وترعرع، بل لابد نأخذها عن طريق هذه القراءة، هي كائن حي ينبض فيه عرض الحياة، فيكون لهذا النبض صداه البعيد في الحياة كما نحسها ونتمثلها، ومصدر قوة هذه الفكرة ذلك التجاوب الكبير الذي حصل بيننا وبين طبيعتها، حيث استطعنا أن نأخذها ممحصة سليمة من عوامل الريب والضعف، فكان سر حياتها عندنا قوتها وصلاحيتها للبقاء.

ولا أنسى أن أسوق الحديث هنا إلى تلك الطائفة التي تعتبر القراءة الفعالة مقصورة على كتب الفكر والعلم دون كتب الشعر والفن، إذ قراءة هذه إنما كانت للاستماع والتسلية. ونحن لا ننكر أن هناك قراءة تفكير وبحث كما هناك قراءة استلذاذ واستمتاع، ولكن الذي ننكره كل الإنكار، أن تعد القراءة الثانية بعيدة عن الفعالية لأنها قراءة استمتاع، ففي كتب الشعر والفن خصائص عقلية وعاطفية وخلفية واجتماعية تقتضي القارئ كثيرا من الوزن والنقد المتمشي وفق مقاييس ومناهج وأصول، كي يعرف ما فيها من قيم ومميزات، وإذا جاز لنا أن نقرأ الإنتاج الفني قراءة  صرفة، نترك فيها المنتج يغمرنا بعواطفه وشجونه دون حساب ولا مناقشة، فإنما ذلك لتحقق بيننا وبين الإنتاج تلك المشاركة الوجدانية التي تمكننا من النفاذ إلى طبيعة الجوهرية، إذ كانت هذه المشاركة ضرورية للنقد الفني، الذي يستوحي من الذوق الشخصي والإحساس الذاتي. ونحن سنزداد فهما لأهمية القراءة الفعالة، إذا فكرنا في هذا العمر القصير الذي نحياه، وفي هذه القيود الأرضية التي تشدنا إلى الغرائز السفلى في نفس الإنسان، ذلك الحيوان الناطق !!  وإذا قدرنا خطورة رسالتنا في الحياة، بصفتنا العنصر المصطفى في هذا الوجود، لنشر الحق وتشجيع الخير وتغذية روح الجمال، فقصر العمر يحتم علينا أن لا نضيع أوقاتنا الثمينة عابثين، والقيود الغريزية تحملنا على الكفاح في سبيل التحرر، حتى نحقق في حياتنا أسمى حقائق الإنسانية، والإيمان برسالتنا العليا في الحياة، يدفعنا إلى خدمة طاقتنا الفكرية والروحية، التي هي وسيلتنا إلى الخلود.

مجلة الأثير، السنة الثانية ،30 أبريل 1952
المصدر:http://www.minculture.gov.ma/index.php?option=com_content&id=242:abdelaali-ouazzani-lecture-active&Itemid=153

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق